Monday, August 27, 2007

مقدمة قصيرة في تاريخ الفقه الإسلامي


مقدمة قصيرة في تاريخ الفقه الإسلامي
ودور
العقل والإجتهاد والقياس
فيه

إشراف: الأستاذ نبيل غالب عقلان


المقدمة:
«والمُؤمِنُونَ والمُؤمِنَاتُ بَعضُهُم أَولِيَآءُ بَعضً يأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ»*1*. أسس دين الإسلام على أمر بسيط. يعتقد الكثير من المسلمين أنه ليس من الصعب أن يفرقوا بين الحلال والحرام، أو بين الصح والخطأ. ولكن في الوقت نفسه المؤمنون من أهل السنّة والمؤمنون من أهل البيت يختلفون في عدد أركان الإسلام*2* وفوق هذا يوجد أختلاف بين المذاهب عن المعنى «توحيد الله»*3*. طعباً، لستُ أقول أنه لا يوجد في الإسلام الأشياء المبينة والثابتة، بالعكس المسلمون متفقون على معظم المبادئ في عقيدتهِم، وإتفقون أن القرآن كلام الله وفيه كلام واضح تماماً. ولكن كيف يُحلّ الإختلاف في الأشياء التي لم يذكرها القرآن مباشرةً وتفصيلاً؟ فينَقَل المسلمون إلى الفقهاء ولكن إذا القاضي لم يجد الحلّ في القرآن فأين يبحث؟ هل يستطيع القاضي أن يقضي برأيه فقط؟ وما هو دور العقل في حكمِهِِ؟ هل يوجد نظام لأجل أن يحكم بدون القرآن والسنّة؟
الآن نفهم لماذا أصول الفقه مهمة جدّاً، وفيه أسس الشريعة الإسلامية ويفخر المسلمون بذلك. ما هو تاريخ أصول الفقه وما هو دور رأي القاضي وعقله فيه؟ في هذه المقدمة القصيرة سننظر بسرعة في مذاهب الفقه في تاريخ الإسلام وبعد ذلك سننظر ما هو دور العقل الإنساني فيه (أي القياس والإجتهاد)؟ تاريخ الفقه الإسلامي محيط واسع ولا نستطيع أن نحيط بكل ذلك الإرث العظيم الذي تركه العلماء في أصول الفقه، بل يمكننا - إن استطعنا - أن نلقي بعض الضوء على نقاط رئيسية أو جوانب مهمة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
تاريخ الفقه في عصر التابعين:
بعد عصر النبي وبعد عصر الصحابة يأتي عصر التابعين. بعد أن صارت مصر والشام وفارس تحت سلطة الخلافة الإسلامية كان الناس بحاجة إلى شرح الأحكام وشرح القانون فظَهَرَ الفقهاء الذين يجتهدون في أفكارهم عن الدين والحياة. في بداية الأمر كان الفقهاء يستعملون رأيهم من خلال القياس في هذه الفترة. الرأي عندهم ثلاثة أقسام:
أ_ رأي باطل بدون شك.، أي غير حقيقي. «وهذا الذي عارضة الصحابة وحذروا منه»*4*.
ب_ رأي صحيح بدون شك، أي حقيقي. وهذا الذي «أستعمله السلف»*5*.
ت_ القسم الثالث، «و هو موضع الاشتباه»*6*. وفيه قد يكون الرأي صحيحاً وقد يكون الرأي خاطئاً.
فنُشِر من القسم الثالث علم الفقه من خلال الصحابة الأربعة التالية أسماؤهم: إبن مسعود وزيد بن ثابت وعبد اللّه بن عمر وعبد اللّه بن عباس. وانتشروا في مدينتي: بغداد (إبن مسعود) ومكة (البقية). وظَهَرَت مدرستان: مدرسة فقهاء الحجاز ومدرسة فقهاء العراق. طعباً، أسس المدرستان - وأيضاً كل المذاهب الفقه في ما بعد - على القرآن ثم السنّة. وإذا لم يجد في النص (القرآن أو السّنّة) ثم المدرستان استعملتا الآثر والقياس، ولكن مدرسة الحجاز تمسكت بالآثر أكثر، ومدرسة العراق أخدت بالرأي (القياس*7*) والاستنباطية أكثر*8*. ننتقل الآن إلى المذاهب الأربعة وهم من أصل المدرستان في بغداد ومكة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
تاريخ المذاهب الأربعة في عصر كبار الفقهاء:
من أئمة المذاهب الأقرب من المدرسة البغدادية الإمام أبو حنيفة (٨٠_١٥٠هـ) في بداية الأمر لم يكن عنده نظام متشدد في أُصول الفقه. الفقه الحنفي أسس على القرآن وعلى السنة وعلى الآثر وعلى أقوال أصحاب النبي ولكن أيضاً على القياس والاستحسان كثيراً. كما سنرى في ما بعد، إنَّ القياس عندهم له دور مهم في حكمهم، وبعضهم يعتقدون أنَّ جذور القياس موجودة في القرآن والسنّة.
من أئمة المذاهب الأقرب إلى المدرسة المكية الإمام مالك بن أنس (٩٣_١٧٩هـ). تاريخياً، كانت أخلاق العلماء في المدينة المنورة قريبة إلى أخلاق النبي. وأصحاب المذهب المالكي كانوا يعتبرون عمل أهل المدينة المنورة مصدراً من مصادر الشريعة وأحياناً كانوا يعتبرون عمل أهل المدينة أهم من حديث الآحاد (الذي قد روي عن طريق الإنفراد). لم يفضلوا الاستحسان والقياس مصادراً.
الإمام الشافعي (١٥٠-٢٠٤ هـ) ومذهبه كان يتوافق مع المذهب المالكي أكثر من المذهب الحنفي. كان الإمام الشافعي يشجع الحديث النبوي فقط ولم يفضل غير الحديث ولم يشجع إستخدام الاستحسان. كان يلجأ إلى القياس كأخر وسيلة لأستنباط الحكم. كتب «الرسالة» وفيها نظام أُصول الفقه. وقال الإمام الشافعي:

«...والعلم طبقات شتى، الأُولى: الكتاب والسنّة إذا ثبتت السنّة. ثم الثانية: الإجماع*9* فيما ليس فيه كتاب ولا سنّة. والثالثة: أن يقول بعض أصحاب النبي (ص) ولا نعلم له مخالفاً منهم. والرابعة: اختلاف أصحاب النبي (ص) في ذلك. الخامسة: القياس على بعض الطبقات ولا يصار إلى شيء غير الكتاب والسنة وهما موجودان، وإنما يؤخذ العلم من أعلى»*10*.

كان الإمام الشافعي متشدداً في تقديم النصوص، ولكن كان الإمام أحمد بن حبنل (١٦٤_٢٤١هـ) في مذهبه متشدداً أكثر منه. كان أحمد بن حنبل يحب الإمام الشافعي ولكنه جعل أفكار الشافعي متشددةً جداً وكان يرفض الاستحسان كاملاً. خلال عصر التابعين، لجأت بعض مذاهب الفقه إلى الحديث المروي عن أصحاب النبي في أحكامهِم، فكان المذهب الحنبلي يرفض كل الحديث إلا الحديث النبوي الشريف*11*.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«منزلة الإجماع والقياس» في «الرسالة»
كما ذكرت سابقاً، إن القياس مشكلة كبيرة بالنسبة لمذهب الشافعي والمذهب الحنبلي. أنزل القرآن من اللّه - الموقف الأعلى - والسنّة من رسول اللّه، فهل من الممكن أن نصدق القياس الذي وجدناه في عقل الإنسان؟
في نهاية «الرسالة» للإمام الشافعي، في النص الأخير في الجزء الثالث، يتحدث الإمام الشافعي عن دور القياس في أُصول الفقه من خلال الحوار. ترك هذا الموضوع حتى النهاية كانّه غير مستحسن ولكنه «ضرورة»*12*.
يسأل السائل «[كيف] حكمْتَ بالقياس؟»*13*. قال الإمام الشافعي إنه قبل أن يحكم بالقياس من الضروري أن نحاول أن نحكم بالخبر (الكتاب والسنّة) فالقياس «أضعف من [الكتاب والسّنة]... ولا يحلُّ القياس والخبرُ موجودٌ»*14*. بالنسبة للإمام الشافعي إن القياس الموقف الأخفض. من هذا التصريح للشافعي سننتقل إلى السوأل التالي: إذا كان القياس ضعيف جداً، فكيف نستطيع أن نصدقه كحجة حقيقية أو كمصدر للفقه الإسلامي؟
بالنسبة للمفكر الهندي المعاصر من المذهب الحنفي*15* يقول أنَّ أصول القياس موجودة في القرآن والسنّة ولذلك فهو جدير بالثقه. ولكن الإمام الشافعي عبقري في أسلوبِهِ لانّه أستخدم القياس لأجل أن يوضح مهمّة وضرورة القياس. فنراه يأتي بمثال عن التيمم:

كما يكون التيمم طهارةً في السفرِ عندَ الإعوَازِ من الماء، ولا يكونُ طهارةً إذا وُجد الماء، إنما يكونُ طهارةً في الإعوازِ. وكذالك يكونُ ما بعدَ السُنّة حجة إذا أعوز من السنّة*16*.

حتى التراب يستطيع أن يجعله الشخص طهارةً أمام الله. فالقياس عنده له دور مهم ويحكم به عندما لا يوجد دليل في القرآن ولا في السُّنّة، والقياس يكون حقيقة في الإعواز*17*.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مؤهلات المجتهد:
ما الذي يؤهل القاضي لاستخدام القياس؟ هل أي قاضي يستطيع أن يجتهد في القياس؟ في القرن العاشر، كتب حسن البصري عن مؤهلات المجتهد*18* وقبله علماء السُّنّة في ما بعد، لاسيما الغزالي العالم الفيلسوف. نستطيع أن نلخص مؤهلات المجتهد كالتالي:
- لا بد أن يفهم اللغة العربية الفصحى ويستطيع أن يفهم القرآن بشكل دقيق.
- من اللازم أن يعرف الفرق بين الآيات المكية والآيات المدنية*19*. لا بد أن يعرف آيات الأحكام (تقريباً ٥٠٠ آية، بالنسبة للغزالي) وحديث الصحابة عنها. ليس من الضروري أن يعرف قصص الأنبياء.
- من اللازم أن يعرف السنّة وسيرة الرواة وإذا كانوا جديرون بالثقه. بالنسبة لإبن حنبل لا بد أن يكون متخصصاً في علم الحديث ويعرف تقريباً ١٢٠٠ حديث.
- من اللازم أن يتأكد من إجماع أصحاب النبي وإجماع الأئمة والمجتهدين تاريخياً وأيضاً لا بد أن يعرف قضاياً بدون إجماع.
- من اللازم أن يعرف نظام القياس إذا وجدت قضية بدون أسبقية.
- لا بد أن يفهم أهداف الشريعة الإسلامية لأجل المصلحه العامة ومن اللازم أن يذكر الآية «يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر»*20* ولا بد أن يكون على يقين وبعيداَ من الشك، ويبحث عن الحقيقة بين الحكم الثابت والحكم اليسير.
- من اللازم أن يكون من الصالحين وليس من الخاسرين.
فهذه مؤهلات عالية جدّاً وحوالي في القرن العاشر قال الغزالي أنه لا يوجد فقيها مؤهلاً أو جديراً بالإجتهاد وقال إن أبواب الإجتهاد مغلقة. طعباً، الكثير من الفقهاء كانوا يجتهدون بعد أن قال الغزالي إن الأبواب مغلقة، لاسيما المذهب المعتزلي الذي قدس العقل وطائفة الشيعة. ولذلك نلتقي الآن إلى أفكارهم وتاريخ فقههم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
علم الكلام وأصول الفقه في تاريخ «الطائفة المحقِقة» الشيعية:
أسست عقيدة الشيعة خلال العصر البويهي في القرن العاشر والقرن الحادي عشر الميلادي. وكما أسستا مدرستي الفقه لأهل السنّة في مكة وبغداد أسس فقه آخر لأهل البيت في مدينتين في فارس: مدينة قم ومدينة ري. صارت بلاد فارس الدولة البويهية ولكنها بعيدة من بغداد ومكة فكان فقهاء الفرس لديهم حرية في الفكر ولهم إستقلال عن المذاهب الأربعة التي ذكرت من قبل. جمع الكلِني (وفاته ٩٤١م) حديث النبي في قم وجمع إبن بابويه (وفاته ٩٩١م) حديث النبي في ري وحتى الآن في الوقت الحاضر فقهاء الشيعة يستخدمون مؤلفات الكلِني ومؤلفات إبن بابوية في أحكامهم*21*.
لقد سافر إبن بابويه إلى بغداد التي كانت عاصمة الخلفاء العباسيين ونشر فكره وأنشأت بعد ذلك المدرسة البغدادية الشيعية. فقهاء الشيعة في بغداد كتبوا عن أصول الفقه التي يستخدمها أئمة الشيعة حتى الآن وصار العقل يلعب دوراً مهماً، وأصبح علم الكلام*22* على جانب كبير من الأهمية في الفقه الشيعي.
من المدرسة البغدادية الشيعية محمد بن محمد بن النعمان الحارثي الملقب بـ«الشيخ المفيد» درس على يد إبن بابويه وقد إنتقد أفكار إبن بابوية في كتاب «الإرشاد» لانّ إبن بابويه زاد في تأكيد الحديث ورفض العقل حتى إذا لم يذكر الحكم سابقاً في القرآن أو السنّة. ولكن الشيخ المفيد شجع علم الكلام حتى في مسائل الايمان. وقد ترك معظم أحاديث الآحاد*23*. بعض مؤلفات الشيخ المفيد - لا سيما في كتابه «أوائل المقالات» - فيه رداً على كتب كثيرة من الطوائف الغير شيعية مثل: أهل السنّة، الحلاج (الصوفي)، الجاحظ الأديب المشهور وغيرِهِ.
طُوِّر علم الكلام على أيادي أصحاب المذهب المعتزلي في البصرة وبغداد. والإسم «معتزلة» من نفس الجذر «إعتزل». ظهر في المرة الأولى في البصرة عندما إبن آتى اعتزل أستاذه حسن البصري بسبب الإختلاف عن «المنزلة بين منزلتين»*24*. وأصبح «معتزلياً» ولكن بالنسبة لهم أسم المذهب «أهل التوحيد والعدل». قدست المعتزلة علم الكلام والفلسفة ولكنهم أسسوا أفكارهم على دين الإسلام. بالنسبة للمعتزلة فإنهم يعتبرون العقل هدية اللّه للإنسان فلا بد للإنسان أن يستخدم عقلَهُ ومن اللازم أن يفكر عن اللّه وعن الكون.
تتكون عقيدة المعتزلة من الأصول الخمسة*25*:
١_ «التوحيد». هذا لم يختلف فيه معظم المسلمين ولكن كان المعتزلة متشددين في التوحيد. الفقيه المعتزلي لا يستطيع أن يذكرها لانّه قد ينكر توحيد اللّه عندما يفتح الباب لأكثر من شيء واحد خالد. بالنسبة للمذهب المعتزلي، كيف يكون اللّه والقرآن خالدين في وقت واحد؟ هل المسلمون يعبدون اللّه أم القرآن؟
٢_ «العدل». اللّه عز وجل ليس ظالم. فالإنسان عنده حرّ وإن ذاته صاحب الأعمال الظالمة واللّه لا يطلب من الإنسان أن يظلم. يتسائل أصحاب المذهب المعتزلي في إذا لم يكن الإنسان حرّاً، فلماذا يوجد ثواب في الجنّة وعذاب في الجحيم؟ فرد معارضوا المعتزلة، يوجد أحياناً نكبات طبيعية وإذا تلك النكبات ليست من الإنسان وليست من اللّه، فمن أين؟ بالنسبة للمعتزلة، هذا دليل على أنًّ «الحياة إمتحان طويل وصعب» فلا بد أن نحافظ على الايمان.
٣_ «الوعد والوعيد». اللّه عادل وعندما يتكلم اللّه عن يوم الدين فهو حق فلا بد للإنسان أن يعمل خيراً في الدنيا.
٤_ «المنزلة بين المنزلتين». إذا أصبح المسلم فاسداً بشكل كبير، أين سيذهب هل إلى الجنّة أو إلى الجحيم في يوم الدين؟ ومن يفعل ذنوب كبيرة ولم يتب وهو ليس مؤمن وليس كافر فبالنسبة للمعتزلة هو «فاسق» ولن يذهب إلى الجنة مباشرة ولن يذهب إلى الجحيم. هذا موقف بين مذهب الخوارج وبين مذهب المورجية*26*.
٥_ «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر». يفضلون الخير وينكرون الظلم. يجتهد الفقهاء في هذا الأمر (ونحاول في هذا البحث أن نفهم معناه).
ومن عام ٨٣٣م حتى ٨٤٧م كانت العقيدة الرسمية للدولة العبّاسيّة هي عقيدة المعتزلة*27* ولكن في ما بعد منعت الدولة العبّاسيّة علم الكلام ومنعت عقيدةِ المعتزلةَ. ورث الشيعة علم الكلام لا سيما مذهب الزيدية ومذهب الإمامية. سبب نجاح الشيعة في الوقت الحاضر هو أستخدامهم لعلم الكلام.
بالإضافة إلى ذلك رفض الشيخ المفيد رأياً يقول أن الله خلق أعمال الإنسان وأيضاً خلق ذنوب الإنسان. أنكر الشيخ المفيد أقدار الحياة أما الارادة الحرة فإنها مقبولة وهي شرط أساسي للعدل في يوم الدين. ففي المقابل لأهل السنّة، أخذت الطائفة الشيعية هذه الأفكار من المعتزلة من خلال الشيخ المفيد.
ظَهَر الفقه الشيعي بعد الفقه السُّنَّي، الفقهاء الشيعة أستخدموا مصطلحات الشافعية. مثلاً، أخذ الشيخ المفيد من الشافعية كلمة «إجماع»*28*، ولكن بمعنى أخر: عندما آراء العلماء تتفق مع رأي الإمام الشيعي المعاصر. فرأي الإمام عندهم مهم جداً. ومن ناحية أخرى، رفض الشيخ المفيد القياس والإجتهاد*29*.
من طلاب الشيخ المفيد المشهورين الشريف المرتضى. درس الشريف المرتضى مع بعض فقهاء المعتزلة - لا سيما القاضي عبد الجبّار الريي - ولقد شجع علم الكلام أكثر من الشيخ المفيد. بالنسبة للشريف المرتضى العقل عنده أهم من النقل، وإذا رُفض العقل وأسس الإسلام على التقليد*30* أيصبح الناس كافرين؟ وقد قاس كل أحاديث النبي وكل اجتهادات الأئمة من خلال العقل وإذا الحديث لم يوافق العقل، فالحديث ليس جديراً بالثقه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
خاتمة:
«والمُؤمِنُونَ والمُؤمِنَاتُ بَعضُهُم أَولِيَآءُ بَعضً يأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ»*31*. إذا رجعنا مرة أخرى إلى سورة التوّبة من أجل أن نتناول الآية التي بدأنا بها، فسنرى هذه الآية بشكل مختلف. كانت الآية تبدو بسيطة في بداية الأمر ولكنها معقدة، ولقد سعت مذاهب كثيرة في تاريخ الإسلام أن تستنبط الأحكام الصحيحة وحاول كل مذهب أن يفعل ذلك بشكل مختلف من أجل تحقيق هذه الآية. حتى اليوم يختلف العلماء في قضايا الشريعة الإسلامية التي تلعب دوراً كبيراً في الدول الإسلامية وفي حياة المسلمين أينما كانوا.
تاريخياً، أستخدمت المذاهب جميعاً دلائل من العقل والنقل بغض النظر عن الطوائف الشيعية أو السنّية. ولكن بعضهم ركز على التقليد أكثر (مثل المذهب الحنبلي)، وبعضهم ركز على العقل أكثر (مثل المذهب المعتزلي). ولكنهم جميعاً كانوا يبحثون عن الهدف نفسه: عدالة مقدسة، عدالة حقيقية بين اللّه والمسلمين والناس جميعاً، نظام الأحكام كامل من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وصلنا إلى الخاتمة ولكننا ما زلنا في المقدمة. ـــــــــــــــــــــــ
مصادر:
«الرسالة»، أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي - دار الكتاب العربي، لبنان، بيروت،
٢٠٠٦
«الموجز في أصول الفقه مع معجم أصول الفقه»، محمد عبيد اللّه الأسعدي، دار السلام،
مصر، القاهرة، ١٩٩٨

Halm, Heinz, Shi'ism. 2nd edition. New York: Columbia University Press, 2004
Hodgison, Marhsall. The Venture of Islam, Volume 1: The Classical Age of Islam. Chicago: University of Chicago Press, 1974.






*1*سورة التّوبة، أية ٧١
*2*يشتركون في الخمسة الأركان الأساسية ولكن الشيعة يضيفون إليها
*3*أي المذهب المعتزلة والمذهب الحنبلي
*4*إنظر «الرسالة» للإمام الشافعي، ص ١٣
*5*نفسه
*6*نفسه
*7* والقياس من المناهج في استبناط الأحكام منطقياً.
*8*إنظر «الرسالة» ص ١٣.
*9*معنى الإجماع: عنمدا العلماء يجتمعون بعضهم البعض ويتفقون جميعاً عن الحكم.
*10*إنظر «الرسالة» ص١٧-١٨
*11*إنظر «الرسالة» ص١٩.
*12*إنظر «الرسالة» ص ٣٦٩
*13*إنظر «الرسالة» ص٣٦٨
*14*إنظر «الرسالة» ص٣٦٩
*15*محمد عبيد اللّه الاسعدي، أنظر في كتاب «الموجز»، ص ٢٤٤
*16*نفسه
*17*وفي نهاية الأمر يقارن بين القياس وحكم القاضي الذي يقضي به على المتهم في حالة رجوعهِ عن اليمين ويمين صاحبه في المحكمة. لكن الأقوى هو الإقرار، وثم حكم أقيم بشاهدين ثم حكم بشاهد ويمينه. والموقف الأخفض - مثل القياس - ثم رجوع المتهم عن اليمين ويمين صاحبه، ولكن سيكون هذا الحكم عدلاً.
*18*إنظر في كتاب «المعتمد في أصول الفقه». وفاة حسن البصري في عام ١٠٨٣م
*19*نزل القرآن إلى النبي في مكة وفي ما بعد في المدينة المنورة. سميت تلك آيات من الفترة المكية «الآيات المكية» وسميت تلك آيات من الفترة المدنية «الآيات المدنية».
*20*إنظر سورة البقرة: آية ١٨٥
*21*إنظر «هينز هالم» في كتاب «شيعسم» {طائفة الشيعة} ص٤٨
*22*الكلام: بمعنى منطق على طريق حوار جدلي
*23*إنظر «هالم» ص٤٩
*24*إنظر الأصول الخمسة في هذا البحث، ص٨.
*25*إنظر «مرشال هوجسون» في «الفنتور وف إسلام» ص٣٨٤-٣٨٦
*26*مذهبان متشددان خلال العصر نفسه.
*27*إنظر «هالم» ص٤٩
*28*كما ذكرت سابقاً، معنى الإجماع عند أهل السّنّة: عنمدا العلماء يجتمعون بعضهم البعض ويتفقون جميعاً عن الحكم.
*29*وهذا موقف عجيب لانّ الإجتهاد لعب دوراً كبيراً بين ملأ الفرس في الوقت الحاضر.
*30*التقليد: بمعنى نقل.
*31*سورة التّوبة، أية ٧١

Thursday, August 16, 2007

الطَّبري وأسلوبه في التاريخ



الطَّبري وأسلوبه في التاريخ
والمسعودي وأسلوبه في «مروج الذهب»
ووفاة عمر بن الخطّاب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إشراف: الإستاذ نبيل غالب عقلان


ـــــــــــــــــــــــ
المقدمة وأهداف البحث:
وُلِد أبو جعفر محمد بن جرير في عام ٨٣٨م في طبرستان (أي فارس) فَسُمِّي الطبري تُوُ فِّي سنة ٩٢٢م في بغداد. زار إبن جرير بإذن أبيه مراكز التعليم الإسلامي فيما بينها مدينة بغداد ومدينة راي بالإضافة إلى مراكز أُخرى في العراق ومصر وهكذا أصبح رجل التعليم. أستقرر في مدينة بغداد في عام ٨٧٧م وهو صاحب الفضل الأول في إجتذاب الطلاب من أماكن بعيدة إليها ولقد زهد في الدنيا ورفض عروض الثروة وفرصات السلطة وركز على دراستِهِ وتلاميذِهِ فقط. يُقال أن إبن جرير أسَّس مذهباً في الفقه سُمِّي مذهب الجريري ولكن في الحقيقة أفكاره قريبة من مذهب الشافعي. قَدَّم إبن جرير أفكاره بصراحة فخلق أعداءً له مثل مذهب الحنبلي الذي قال أن إبن جرير ليس فقيهاً وفي أواخر أيامه دافع عن نفسه ضد الأتهام بالزندقة.*1*
كتب كميات هائلة خلال حياته وكان إبن جرير نشيطاً في دراسته. يتكون «تاريخ الرسل والملوك» (إي تاريخ الطبري) من ١٣ مجلداً وهو تاريخ العالم منذ الخلق حتى ٩١٥م بالإضافة إلى ذلك تكون كتابه «جامع البيان عن تاويل القرآن» (أي تفسير الطبري) من ٣٠ مجلداً*2* وفوق هذا كله بدأ يكتبُ سير أصحاب النبي ولكنه لم يكملها وتُعدُّ كل مؤلفاته مصدراً من مصادر التاريخ الإسلامي.
أريد أولاً في هذا البحث أن أتساءل ما هو أسلوب إبن جرير في تاريخه في جزء صغير من تاريخ الرسل والملوك وسوف أحقق النظر في وصفه لوفاة عمر بن الخطّاب. أخترت هذا الجزء من تاريخ الطبري لانَّ وفاة الخليفة مُهمِّة في تاريخ الإسلام وهو على جانب كبير من الأهمية في قضية التعاقب بعد النبي محمد ويوجد حوار بين المذاهب وبين الطوائف حول وقيعتها.
بعد أن اعتبرنا أسلوب إبن جرير في جزء صغير من كتابه أريد ثانياً أن أُقارن بين أسلوب الطبري وأسلوب المؤرخ الآخر الذي كتب خلال الفترة نفسها عن الموضوع نفسه ولذلك سننظر في ذكر الخليفة عمر بن الخطّاب في كتاب المسعودي «مروج الذهب ومعادن الجوهر» والمسعودي أيضاً مؤرخ مشهور كالطبري وكتابه أيضاً مصدر معروف. سنتسائل بأي شكل يختلفان وبأي شكل يتوافقان في أسلوبهِما؟
أخيراً أُريد أن أستخلص النتائج عن خلق التاريخ الإسلامي في العصور الوسطى. هل يوجد عقل الشاعر أو دوافع الرجل السياسي داخل عقل إبن حرير؟ كيف نفسر تاريخ الطبري وما هو أحسن طريق إذا أردنا أن نشرح أسلوبه؟
ـــــــــــــــــــــــ
ذكر الخبر عن مقتل عمر بن الخطّاب (الفاروق) في تاريخ الطبري:
إبن جرير ما كان موجوداً خلال فترة القتل ولذلك يجتهد في بداية الأُمور أن يحصل على الثقات فيحكي إسناد الخبر الطويل على أسلوب الحديث الشريف:
حدثنى سلمة بن جنادة قال نبآ سليمان بن عبد العزيز إبن أبي ثابت بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمان إبن عوف قال نبآ أبي عن عبد اللة بن جعفر عن أبيه عن المسور بن مخرمة وكانت امّه عاتكة بنت عوف*3*...
من هذا النص نعرف أن الخبر جاء من المسور بن مخرمة ويوجد ٦ سلسلات حتى نصل إلى قلم إبن جرير ولكن يذكر ١٧ هم أسماء الذين يساعدونا في قراءتنا وفي تقييم الصحة للخبر. ومن الأشخاص وراء الأسماء التي ذكرها؟ هل هم أشخاص جديرون بالثقه ولهم أخلاق أو هل هم من الكاذبين؟ إذا صدقنا الأسماء التي ذكرها فسنصدق الخبر. وإذا وجدناهم من أسماء الأشخاص الغير الموثوقين فلن نصدق الخبر مائة في المائة. وكما ذكرت سابقاً أن إبن جرير يستخدم الإسناد مثل الخبر من الحديث الشريف للنبي. وبدون السلسلات ليس لنا دليل هل إذا كان الخبر صحيحاً أم غير صحيح.
بعد ذلك يبدأ يروي إبن جرير قصة صغيرة هي عندما مشى عمر بن الخطّاب يوماً من الأيام إلى السوق وأجتمع مع الغلام النصراني الذي كان يعمل نجاراً ونقاشاً وحداداً في خدمة المغيرة بن شعبة*4* ولقبه أبو لؤلؤة. فنقرأ حواراً بينهما: كان الغلام يشكو للخليفة أنه يدفع درهمان في كل يوم إلى المغيرة بن شعبة ضريبةً وطلب من عمر الشفاعة. لم يوافق عمر بن الخطّاب بأن هذه ضريبة مرتفعة وبالعكس فهي عدالة ولا يستطيع أن يشفع له لكن الغلام تذمر وقبل أن يرجع عمر إلى منزلِهِ قال في نفسهِ «لقد توعدني العبد آنفاً» وينتهي هنا هذا الحوار الصغير.
عندنا أسئلة: هل غلامه سيكون القاتل للخليفة عمر بن الخطّاب؟ ولماذا يذكر إبن جرير دين الغلام؟ حتى الآن الإجابات غير واضحة. ولكن نتعلم أشياء أخرى من خلال هذا الحوار: قدم إبن جرير الصفحات الأساسية لشخصية عمر بن الخطّاب. أولاً، إنه متسامح لانّه يجتمع مع شخص نصراني غير مسلم. ثانياً، بغض النظر أنه أمير للمؤمنين، فهو متواضع لانّه لا يزال يتحدث مع الغلام بشكل كريم. أخيراً، إن عمر يهتم بالعدل*5* لانّه يعمل ضد الظلم ويجتهد في المساواة ويعمل ضد المظلومين والفساد. إذا ساعدَ شخص واحد وليس كل الشعب فـسيكون غير موضوعي. ربما هذا الاجتماع بين عمر والغلام لا يبدو مهماً تاريخياً ولكن من خلال هذه القصة نتعرف على شخصية عمر بن الخطّاب ونعرف شخصية أبو لؤلؤة الذي سيصبح مهماً في التاريخ الإسلامي بعد قليل.
من هنا ينتقل إبن جرير إلى الغد ويروى القصة التي تبدو مختلفة تماماً ويستمرُّ في كتابة تاريخه من خلال الحوار:
فلمّا كان من الغد جاءه كعب الاحبار فقال له يا امير المؤمنين اعهد فانّك ميّت في ثلاثة ايّام قال وما ويدريك قال وجدته في كتاب الله عز وجل التوراة قال عمر: اللّه انّك لتجد عمر ابن الخطّاب في التوراة قال اللهم لا ولكنّى اجد صفتك وحليتك وانّه قد فني اجلك قال وعمر لا يحسّ وجعاً ولا الماً....*6*
في القصة الأولى أجتماع عمر مع نصراني وفي القصة الثانية جاء إلى عمر أحد السلف من الإسرائيليات يسمي كعب الاحبار*7*. كعب يحذّر عمر من القتل: «اعهد فانّك ميّت في ثلاثة ايّام» وقال كعب إن الدليل على ذلك موجود في التوراة العبرية. يؤكد كعب أن التوراة «كتاب الله عزّ وجلّ» فقد توجد أخبار عن مقتلة عمر بن الخطّاب فيها. لم يتسائل عمر بن الخطّاب إذا كانت التوراة كتاب اللّه أم لا - بالعكس - بالنسبة لتاريخ إبن جرير كاد عمر أن يصدق التوراة كانّه كلام اللّه فسائل إذا كعب الاحبار وجد الأسم «عمر ابن الخطّاب» نفسه في التورة. أجاب كعب «اللهم لا ولكنّي اجد صفتك وحليتك». من الواضح أن هذا الدليل لا يكفي وفوق هذا عمر لا يحس المّاً فلا عجب أنَّ عمر لم ينتبه إلى تحذير كعب. فاليوم التالي جاء كعب الأحبار مرة ثانية ويحذّر عمر من الموت، وأيضاً اليوم التالي رجع كعب الأحبار مرة ثالثة ويحذّره من الخطر نفسه. كعب يحذّره لأجلِ أن يساعده ويساعد المسلمين في مسقتبلهم، ولذلك قال كعب الأحبار «يا امير المؤمنين اعهد» أي من اللازم أن يختار خليفة جديد. اليوم التالي جاء عمر إلى صالة ومفاجئة ضُرِبَ عمر ٦ ضربات و«إحداهن تحت سرته وهي التي قتلته»*8* وكاد أن يموت.
الحوار بين عمر وكعب الأحبار مهم جدّاً لاسيّما وإن كان تحذير كعب صحيحاً:

ودخل في الناس كعب فلمّا نظر اليه عمر انشأ يقول
فأوعدني كعب ثلاثا أعدها لا شك أن القول ما قال لي كعب
وما بي حذار الموت اني لميت ولكن حذار الذنب يتبعه الذنب*9*

الحوار يكشف رأي إبن جرير عن العلاقات بين المسلمين واليهود خلال عصر عمر بن الخطّاب. بالنسبة لإبن جرير كان عمر يحظى باحترام اليهود وكان العلماء اليهود يساعدون نشاط الخلافة الإسلامية. من الصحيح أن عمر لم ينتبه إلى تحذير كعب ولكن إبن جرير لم يلم عمر من ذلك - فقط هذه قصة تؤكد أن قصة عمر وقتله مكتوبة داخل الكتاب المقدس.
بعد قصة القتل، يعود إبن جرير مباشرةً في تاريخه إلى قضيتين: قضية التعاقب وقضية الذنب القتل. أهمهما قضية التعاقب، ويكتب إبن جرير حوار طويل عن هذا الموضوع*10*. المشكلة هي إذا عمر يستخلف فيعمل صالحاً كما عمل الخليفة أبي بكر ولكن إذا عمر لم يستخلف فيعمل صالحاً كما عمل النبي. ذكر إبن جرير أن عائشة كانت خائفة من حدوث فوضى إذا عمر لم يستخلف فقرر عمر أن يجمع لجنة*11* الصالحين الذين سينتخبون الخليفة بعده ويصف أحكام الإنتخابات بشكل دقيق.
أما قضية الذنب، نريد أن نعرف من قتل عمر ولماذا؟ في التاريخ الإسلامي يوجد اغتيالات كثيرة بسبب السياسة والدين ولكن في نهاية الأمر ما كان السبب سياسي وما كان السبب ديني وأيضاً ما كان سبب حب السلطة. بالعكس كان السبب بسيط جداً:
ذكر إبن جرير أن القاتل هو أبو لؤلؤة الغلام وكان غاضباً مع عمر لانّه رفض الشفاعه بينه وبين المغيرة بن شعبة بسبب درهمين!!
بعد أن حكى الطبري قصة القتل يذكر آراء كثيرة عن قضية عمر عندما مات. بعد ذلك يذكر نسبه ويتبع مع صفاته وثم مولده وولده وآخر أعماله خلال حياته. فبدأ مع قصة قتله كانّها أهم قضية في تاريخه. ألآن سننتقل إلى رواية المسعودي عن نفس الموضوع.
ـــــــــــــــــــــــ
مقارنة بين المسعودي والطبري:
وُلِد أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي في بغداد في العراق حوالي عام ٨٩٥ وكان مؤرخ ومستكشف وهو العربي الأول الذي كتب التاريخ العالمي كانّه علم وأشتهر في كتابه «مروج الذهب ومعادن الجوهر» نُشِر في عام ٩٤٠. أحب التعليم وهو صغير. سافر لإجلِ الدراسة إلى كثير من البلدان وركز على كثيرٍ من المواضيع لا سيما التاريخ والجغرافيا وعلم الدين المقارنة. رحل إلى سوريا وفارس والهند وسيرلانك وعمان وشرق أفريقيا. كتب أكثر من ٢٠ كتاباً ولكن فقدنا معظمهم وبقى قليل منهم في الوقت الحاضر. كان مؤلف كتاب «أخبار الزمان» وكان عنده ٣٠ مجلداً ولكنها بدون جدوى بسبب طوله فكتب «مروج الذهب» وهو أقصر من «أخبار الزمان» ولكنه مفيد جداً. قال إبن خلدون إن «لقب المسعودي هو إمام المؤرخين».
في «مروج الذهب» ١٣٢ فصلاً وجزأه الأول يدور حول تاريخ العالم (كيف خُلِقت الدنيا) والتاريخ اليهودي وتاريخ العالم الخارجي (أي الرومان واليونان والصين). في رأيه أنَّ المساهمة الكبرى اليونانية هي الفلسفة. وجزءه الثاني في تاريخ الإسلام منذ وقت النبي حتى عصر الخلفاء خلال عصر المسعودي.
المقارنة بين المسعودي والطبري عن مضوع قتل عمر بن الخطّاب ستكون مفيدة كثيراً لانّهما مؤرخين مشهورين وقد كتبا في الوقت نفسه والإثنين كانا يدرسان الفقه والإثنين كانا يعيشان في بغداد في الوقت نفسه. كان الطبري سُنَّى وكان المسعودي شيعي وربما هذا الفرق الديني هو السبب في إذا كان عندهما آراء مختلفة في تاريخهِما وأسلوبهِما.
في كتاب «مروج الذهب» يبدأ المسعودي مع موجز حياة عمر بن الخطّاب. حينما أن إبن جرير يذكر التواريخ في (أي سنة مات ... إلخ) قدم آراء كثيرة*12* ولكن في موجز المسعودي يقدَّم تواريخ ولكنه لم يذكر آراء مختلفة*13*. ولكن بشكل عام كل الوقعات الموجودة في موجزه موجودة عند الطبري أيضاً. بعد ذلك يصف نسبه وثم صفاته وثم أعماله قبل أن يروي القصة عن مقتله. ألاحظ أن هذا ترتيب مختلف من النظام عند إبن جرير الذي بدأ القصة عن مقتله وبعد ذلك ذكر نسبه ثم صفاته وثم أعماله.
عندما يذكر أبو لؤلؤة لم يذكر الإسناد الطويل مثل الطبري*14*. ولكن من الأكيد أستخدما المصادر نفسها لانّ الحوار بين أبي لؤلؤة وعمر بن الخطّاب في «مروج الذهب» قريب إلى الحوار بينهما في تاريخ الطبري. أيضاً أبو لؤلؤة الغلام يشكو ويتذمر بسبب درهمين. ذكر إبن جرير أن دين أبو لؤلؤة الغلام نصراني، ولكن بالنسبة للمسعودي إن دين أبو لؤلؤة مجوسي. وفوق كل هذا بحث في «مروج الذهب» في نهاية الحوار أن الخليفة قال «العلج قد توعدني انفاً»*15*. يختلف الطبري والمسعودي في عدد الضربات - قال الطبري «٦ ضربات» وقال المسعودي «٣ طعنات» - ولكن يتفقان أنَّ «إحداهن تحت سرته وهي التي قتلته»*16* وقد أستخدما الكلام نفسه تماماً!! من هذا نعرف أنَّ المسعودي والطبري اشتركا في المصادر. ولكن في تاريخ الطبري قضية الذنب غير واضحة تماماً ولكن في «مروج الذهب» إن القاتل غلام المغيرة بن شعبة بدون شك. فينتقل المسعودي بسرعة إلى قضية التعاقب ومن سيستخلف في المستقبل. في تاريخ الطبري كانت عائشة هي التي حذّرت عمر من الفوضى في المسقتبل إذا ترك المسلمين بدون خليفة، ولكن المَسْعُودي لم يذكر عائشة في «مروج الذهب» وبدلاً من ذلك كان ولده عبد اللّه الذي يحذّره، وقال: «استخلف على أمة محمد؛ فإنه لو جاءك راعي إبلك أو غنمك وترك إبله أو غنمه لا راعي لها للُمتُُهُ وقلت له:كيف تركت أمانتك ضائعة؟ فكيف يا أمير المؤمنين بأمة محمد؟ فاستخلف عليهم»*17*. ولكن عمر سجين المشكلة نفسها في تاريخ الطبري - «أستخلفه عليهم أبو بكر» ولكن لم يستخلف النبي محمد. المناقشة عن التعاقب بسيطة جداً وتنتهي هنا ولم يذكر تفاسير أكثر عن إنتخاب عثمان هنا*18*.
غابت عائشة ولكن غاب جزء مهم آخر - أين كعب الأحبار؟ أين التنبؤ عن مقتل عمر بن الخطّاب في التوراة؟ ربما ذكر المسعودي أسم كعب الأحبار في مكان آخر ولكن لم يذكر كعب الأحبار ابداً في هذا الفصل من «مروج الذهب». كما قلت سابقاً، شخصيِّة القاتل واضحة تماماً في «مروج الذهب» وينتقل المسعودي مباشرةً من قصة أبو لؤلؤة إلى قصة القتل. بالنسبة لمصادر أخرى كان كعب الأحبار مهم في التاريخ الإسلامي وكان وزيراً مُقرَّباً إلى الخليفة عمر بن الخطّاب. فلماذا المسعودي لم يذكر كعب الاحبار؟ أليس كعب جزءاً من القصة؟ هذا السؤال فعلاً لغز وسيكون بحاجة إلى بحث أطول من بحثي. ربما الطبري كان يبالغ في دور كعب الأحبار في قصة قتل عمر بن الخطّاب والسبب أنَّ المسعودي لم يذكره في كتابِهِ. بالإضافة إلى هذا، نستطيع أن نخمن ثلاث فرضيات أخرى:
أ) الفرضية الأولى: كان كعب الأحبار وزيراً للخليفة معاوية بن أبي سفيان وتأثر به كثيراً. كما نعرف، في تاريخ المذاهب الشيعية أنَّ الخليفة معاوية قتل لأمام عليّ، فيكرهون الخليفة معاوية ويكرهون الذي ساعده (ربما كعب الأحبار). كان المسعودي شيعي - ربما لهذا السبب لم يذكره؟
ب) الفرضية الثانية: لم يقرأ المصدر نفسه كالطبري الذي ذكر الحوار بين كعب وعمر.
ج) الفرضية الثالثة: ذكر المسعودي كعب الأحبار في كتابه «أخبار الزمان» ولكن عندما جعل هذا الكتاب قصيراً، ترك بعض المعلومات الغير أساسية.
لا أصدق الفرضية الأولى كثيراً لانّني أعتقد أنَّ المسعودي مضوعي وبشكل عام مذهبه لم يؤثر في تاريخه. ولا أصدق الفرضية الثانية لانّني أعتقد أنَّ كعباً مشهور ومعروف في التاريخ الإسلامي فليس من المحتمل أن المسعودي ما عرف كعب. الراجح هي الفرضية الثالثة فكتب المسعودي:
ولعمر بن الحطّاب رضي اللّه عنه أخبار كثيرة في أسفاره في الجاهلية إلى الشام والعراق مع كثير من ملوك العرب والعجم، وسير في الإسلام، وأخبار وسياسات حسان... قد أتينا على مبسوطها في كتابنا «أخبار الزمان»...*19*
ـــــــــــــــــــــــ
الخاتمة:
فما هو الأسلوب المفضل في كتابة التاريخ؟ بشكل عام، الأسلوب في تاريخ الطبري دقيق وعنده تفصيلات أكثر وإسناداً أكثر ولكن القراءة أصعب للطالب المبتدئ ولكن سيستفيد منه كثيراً الطالب المتقدم والمؤرخون المعاصرون. ومن جهةٍ أخرى الأسلوب في «مروج الذهب» في التاريخ الإسلامي بسيط وسهل للطالب المبتدئ ولكنه ليس دقيق فلن لن يستفيد منه الطالب المتقدم كتاريخ الطبري. في تاريخ الطبري عندنا وعي بالأخطاء والإختلاف بين المؤرخين وربما كان «أخبار الزمان» للمسعودي هكذا أيضاً - لن نعرف. ولكن بالنسبة لي، المؤرخ الأفضل يؤكد: أنه توجد أمور في التاريخ ليست أكيدة. ـــــــــــــــــــــــ
مصادر:
«مروج الذهب ومعادن الجوهر»، الحسن علي بن الحسين المسعودي - دار المعرفة، لبنان، بيروت، ٢٠٠٥.
Annals of Tabari, ed. by Michael Jan De Goeje. Leiden: E.J. Brill, 1902







*1*إنظر سيرة الطبري: Annals of Tabari , ed. by Michael Jan De Goeje. Leiden: E.J. Brill, 1902 pp. ix-x أي تاريخ الطربي
*2*في طبع (بريل) في (ليدن) في عام ١٩٠١.
*3*إنظر تاريخ الطربي ص ١.
*4*أصبح المغيرة بن شعبة حاكم في بصرة وكوفة على أيادي عمر بن الخطاب.
*5*لقبه الفاروق لانّه فَرَقَ بين الحق والباطل
*6*إنظر تاريخ الطربي ص ٢
*7*وهو من أصل حِمِيَرِ، ووُلِد يهودي وحتى بعد أن أسلم كان يشترك في دين اليهود. أنظر Jewish Encyclopedia عن كعب الاحبار لـ Richard Gottheil وHartwig Hirschfeld
*8*إنظر تاريخ الطربي ص ٢
*9*إنظر تاريخ الطربي ص ٥
*10*إنظر تاريخ الطربي ص ٣ - ٤
*11*وهم علي أبن أبي طالب وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة وزبير وسعد
*12*كتب صفحتين عن رقم سنة عندما مات أبو لؤلؤ، أنظر تاريخ الطربي ص ٦ و٧
*13*ربما ذكر المسعودي أراء مختلفة في كتابه «أخبار الزمان». لن نعرف لانّنا فقدنا هذا المجلد منذ ميأات سنة
*14*مرة ثانية، ربما ذكر المسعودي الإسناد في كتابه «أخبار الزمان».
*15*أنظر «مروج الذهب» ص ٢٨٥
*16*أنظر «مروج الذهب» ص ٢٨٥ و تاريخ الطبري ص٢
*17*أنظر «مروج الذهب» ص ٢٨٥
*18*مرة ثالثة، ربما ذكر المسعودي إنتخاب عثمان في كتابه «أخبار الزمان» أو في مكان أخر.
*19*أنظر «مروج الذهب» ص ٢٩٤